ملتقى بلدة مهين

كتاب مهين كما رأيتها

recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...

مهين والثورة

 مهين والثورة

جاء الربيع العربي ولم يكن لأحد أن يتوقع وصوله إلى سوريا، ولكنه وصل في آذار العام 2011 م. وعمّت الفوضى في بعض المناطق السورية وكان أهالي مهين يتابعون أخبار المظاهرات عبر القنوات الفضائية ولديهم شعور بأن الذي يجري لن يصل إليهم، وتصاعدت الأحداث بعد أشهر قليلة، وعمّ القتل الممنهج للمتظاهرين. استغل الأهالي غفلة الحكومة وانشغالها، فلا رقيب اليوم على تشييد الأبنية أو حفر الآبار الارتوازية، فبنوا وحفروا دون خوف أو محاسبة، وقد كانوا لا يجرؤون على بناء حمّام لأنه كان يحتاج لرخصة بناء، ولا يستطيعون استخدام آلة الحفر الارتوازي ولا حتى زرع الشجر فكله ممنوع. وزرع الناس الخضار وبعض الأشجار المثمرة مستخدمين المولدات الكهربائية لتشغيل دينامو لسحب الماء والسقاية، وانتعشت حياة الناس رغم الأحداث المأساوية التي تجري في مناطق كثيرة من القطر، ولم يتمكن شباب البلدة من النأي بأنفسهم عن الأحداث الجارية من حولهم، فتظاهروا وعبّروا عن رفضهم للقتل وطالبوا بإسقاط النظام.




   كانت المظاهرات تخرج غالباً يوم الجمعة بعد الصلاة بسبب العطلة، وتفرغ الشباب حيث لا عمل في هذا اليوم غالباً، مع أن معظم هؤلاء الشباب من الذين لم يكملوا تعليمهم أو مازالوا طلاباً حيث انكفأ الموظفون والجامعيون.

   في ليلة من الليالي أفاق الأهالي على وقع ضربات دبابة، وتكشّف ذلك عن مهاجمة  فصائل مسلحة للجيش الحر لمستودعات الذخيرة الكائنة في الجبل الصغير المجاور للبلدة حيث تم أخذ كمية قليلة من السلاح في عدة سيارات شاحنة كانت معدة لهذا الغرض، وقد أصيبت إحداها أو تعطلت قرب عين القصر، فكانت غنيمة سهلة منذ الفجر لعشرات الشباب الذين نقلوا ما بها وخبؤوه. وبعد أن استيقظ النظام واستعاد وعيه لما جرى طلبوا استرجاع الذخيرة وإلا..(تهديد). وتمّ الاتفاق مع الوسطاء على استرجاع الذخيرة إلى باب جامع مهين الكبير دون ملاحقة أحد، فكان البعض يأتي بالذخيرة التي أخذها طواعية ويضعها منذ ساعات الفجر الأولى لليوم التالي ويمشي دون مراجعة أحد. وانتهت القضية ونجت البلدة من العقاب، وتغيرت قيادة المستودعات من العقيد سعدالدين إلى العقيد يائل الحسن.

استمرت المظاهرات وارتفع علم الثورة في ساحة العين على أحد أعمدة الكهرباء. لقد كان الشباب متحمسين جداً حيث قاموا بتنظيم أنفسهم، وعملوا تنسيقية ثورية كما كان يحدث في معظم البلدات والمدن الثائرة، وبثوا مظاهراتهم ليلاً من ساحة العين إلى قناة الجزيرة رغم تواجد قوات النظام في المستودعات قرب البلدة والتي بدأت بتسيير دورياتها في النهار لترصد وتنقل أخبار البلدة مستعينة ببعض ضعاف النفوس عما كان يجري.

في أحد الأيام جاء الإنذار الأول نهاراً من طائرة حوامة مستخدمة الرشاش في الضرب العشوائي على شوارع القرية وعلى أسطح بعض البيوت، ولكن الله سلّم ولم يُقتل أحد، وكانت هناك بعض الأضرار لخزانات المياه التي طالها الرصاص، ولكن الضرر الأكبر كانت الصدمة على وجوه الناس الذين تملّكهم الخوف والهلع.

    باتت دوريات المستودعات لا تفارق شوارع البلدة ليلاً أو نهاراً، وكانت تستعرض قوتها في سياراتها المملوءة بعدد كبير من الجند ورشاش تحمله على ظهرها، ويقف خلف زناده أحد العناصر، فكانت تعتقل وتحقق، ولا تتوانى عن إطلاق بضع رصاصات من بنادق روسية لبث الرعب بين الناس، بل قتلوا أشخاصاً مطلوبين بدم بارد، هذا عدا عن المدفعية الثقيلة المتمركزة في مكان مرتفع من المستودعات يشرف على القرية، والتي لا يمر يوم إلا وقد ارتجّت بيوت البلدة من قذائفها التي كانت ترمى باتجاه الأراضي المحيطة .

   لقد ذاع صيت العقيد يائل الحسن العلوي من الحرس الجمهوري في المنطقة كلها، والذي بات يُعرف بعقيد الجبل. لقد حيكت حول هذا العقيد القصص والحكايات، وألفت بحقه الخرافات وما بقي إلا أن يضاف إلى الأساطير، فقد كان يتنكر بثوب بدوي، ويموه سفره بعدة سيارات مختلفة، ويلبس بزته العسكرية حيناً، و يتمشّى في شوارع مهين وحوارين للتعرف على أحوال الناس، ويحلّ بعض مشاكلهم. فقد ذكر أنه أرسل بعض المال لأناس فقراء، وزودهم ببعض المازوت للتدفئة في الشتاء، وتجاوب مع آخرين في فك أسر بعض المحتجزين عنده، وهذا غيض من فيض مما قيل، ولكن بالمقابل ماذا فعل عقيد الجبل قائد المخازن 558 المعروفة بمستودعات مهين؟

بعد استلام المستودعات، وضع الدشم اللازمة لحمايتها ورمى عدداً كبيراً من حمولات التراكتور من الحجارة في طريقها الرئيسي تاركاً ممراً ضيقاً بشكل متعرج لمرور السيارات، ثم تعرف على جغرافية بلدات المنطقة  مهين وحوارين والحدث والغنثر، وتعرّف على الطرق الرئيسية باتجاه مدينة القريتين، وباتجاه بلدة صدد، والطرق الترابية الأخرى، وتواصل مع بعض البعثيين الذين كانوا يأتونه في مقره بالمستودعات، ولم يفته مقابلة بعض الناس بقصد أو عن غير قصد في بيوتهم أو في الشوارع التي كان يقصدها، وتمكن من اختراق المجتمع في مهين وحوارين من خلال بعض مرضى ومريضات النفوس. لقد اتخذ ملازماً إمّعة يدعى مصطفى الخضر من بلدة موحسن في ديرالزور مساعداً له في كل أعماله وتحركاته، وتبيّن للجميع أن هذا العقيد السيء المنشأ والتاريخ كان الحاكم بأمر الله في المنطقة الممتدة من القلمون إلى مدينة القريتين.

كانت سيارات الدوشكا وكثرة العساكر وسلاحهم يثير الرعب عند الأهالي أثناء تجوالهم في شوارع البلدة وكأن حرباً وشيكة ستقع. لا يدري أحد ماذا كان يخطط هؤلاء، ولكن يتضح من سيرهم البطيء تارة والسرعة الجنونية تارة أخرى بأنهم لا يريدون الخير، ولا تكاد تمضي ساعة حتى ينتشر الخبر في البلدة كلها بفعلة هؤلاء المجرمين، أخذوا فلاناً أو سألوا عن فلان وأخذوا سيارة فلان لقضاء بعض حاجاتهم، ولا يمكن لأحد أن يمتنع عن تقديم ما يلزمهم فهم يحمون الوطن من المسلحين وإلا فأنت لا تحب الوطن أو أنت خائن، وببساطة (اطلع معنا). تقرأ في وجوههم الحقد واللؤم والضغينة، فمنهم من ترك لحيته تطول، و كانت أعمارهم بين العشرين والثلاثين ويتكلمون بلهجة واحدة (لهجة العلويين)، مع أن بعضهم من دير الزور أو من الحسكة أو من حلب. لقد جمعهم المال والسلطة ليس إلا.

    كان الليل لا يمر بسهولة على كثير من الأهالي فهم لا ينامون طبيعياً، فكل ليلة يتوجسون شراً من سيارات الدوشكا أو من بدء معركة من طرف واحد بالمدفعية الثقيلة، تهز جدران البيوت وتضيء سماء البلدة بدءاً من الجبل، حيث تقع القذيفة قريباً على أطراف البلدة، وأحياناً قرب البيوت في محطة القطار. و في الصباح لا يوجد شيء مما حدث غالباً، وقد تجد سيارة شاحنة تشتعل فيها النيران. وكان يعمد إلى قصف الطرق الترابية القادمة إلى البلدة، كما قصف مرة مدينة القريتين وذهب بنفسه ليرى آثار قصفه على بيوتها، وسأل أحد الأشخاص هناك في أحد الشوارع التي طالتها القذائف: منْ قصف هذه البيوت ؟ فرد عليه من دون معرفة به (عقيد جبل مهين والله ، رجمنا) فتبسم مغروراً. لقد روّج لنفسه بين الحين والآخر أنه الإنسان الشريف الآدمي الذي يحبّ الناس ويساعد الفقراء وما يريد إلا الإصلاح. ولكن كم من شاب قضى ظلماً على يدي هذا المجرم الذي ينفذ سياسة النظام حرفياً بل وزيادة (دون أن يرفّ له جفن). لقد سجن وقتل وحوّل إلى مراكز التعذيب في المدن، وأخذ سيارات مدنية لعدة أيام لاستخدامها في التمويه والتخفي أثناء تحركاته أو ملاحقاته للناس، فاضطر البعض مكرهاً لبيع سيارته التي يستخدمها في تحصيل رزقه. ومع هذا كله كان في البلدة وغيرها من القرى المحيطة منْ يسهّل عمل هذا العقيد ومنهم نساء مع الأسف.

   ومما كشفت عنه الأيام حينها أن الحروب التي كان يصطنعها بمدفعيته وخصوصاً في الليل ما هي إلا حروباً وهمية، ومن ورائها عقدُ صفقات وجني لملايين الليرات من المهربين وخداع للدولة، وبالتالي لا بد من ترك سيارة محروقة هنا وأخرى معطوبة هناك كدليل على جدية عمله. لقد جرت محاولات عدة للإيقاع به من قبل الجيش الحر ولكنه ينجو في كل مرة، وحتى ينتقم لنفسه كان يجري اتصالاته للانتقام، فتأتي طائرة حربية ليلاً وتقصف مجموعة من الصواريخ القصيرة بشكل عشوائي على البيوت وعلى أي سيارة تتحرك وقد أصيب أناس بجروح. وفي حادثة مماثلة جاءت طائرة حربية ليلاً وقصفت لا يقل عن عشرين صاروخاً على البيوت بشكل عشوائي أيضاً وفي أماكن العمران المكتظة وتضررت بعض البيوت واستشهدت زوجة عبيد القدور وأصيب آخرون.

لقد نقل أحد الأشخاص الذين عرفوا العقيد عن قرب أنه كان ذو مزاج غريب فهو هادئ أحياناً ويسمع للآخر، ولكنه في كثير من الأحيان يفقد السيطرة على نفسه فيرفض استقبال أي أحد حتى لو كان من الفسافيس المقربين ويكثر من شرب الخمر. وذكر أيضاً أنه نفذ القتل بيده لبعض العساكر الذين اكتشف تخطيطهم للانشقاق عن الجيش أو الهروب. وكان له مغامرات مع النساء فقد ارتبطت به امرأة من حوارين.

لقد تحولت حياة الناس إلى اضطراب وقلق، حيث يجري الحديث عن تسريبات من عناصر الجيش الحر أن الأيام القادمة تحمل معها أخطاراً كبيرة للبلدة، وأن التحضيرات جارية للاستيلاء على مستودع الذخيرة الكائن في الجبل بجوارها.


الصفحة التالية


عن الكاتب

mohamed mustafa

التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

ملتقى بلدة مهين