ملتقى بلدة مهين

كتاب مهين كما رأيتها

recent

آخر الأخبار

recent
recent
جاري التحميل ...

مهين والثورة 2

 الاستيلاء على المستودعات والنزوح:

في 21 \ 10 \  2013 م أفاق أهالي مهين وحوارين على صوت انفجار قوي ارتجت له البيوت وآثار هلعاً شديداً في النفوس، وقد تبين أنه كان قد استهدف حاجز جيش النظام ومخيمه المقام على الطريق من حوارين باتجاه مدينة القريتين معلناً بدء الهجوم على المستودعات، حيث اشتركت عدة فصائل من الجيش الحر بما فيهم شباب من البلدة انضوت تحت لواء هذه الفصائل، وعند دخول هذه الفصائل ليلاً وتوزعها حول البلدة لقطع الطرق على النظام قبل ساعة الصفر كان نزوح الأهالي من البيوت القريبة من منطقة المستودعات قد بدأ، ولكنّ الكثيرين من الأهالي لم يكونوا على علم بما يجري إلا بعد سماع صوت الانفجار.

   الناس في حيرة وذهول، يلملمون القليل من حاجاتهم ويهرعون يمنة ويسرة ويتفقدون بعضهم البعض ويتساءلون ماذا نفعل؟ أين نذهب؟

   كانت راجمة الصواريخ في الجبل تقصف باتجاه البيوت المواجهة لها مما جعل ساكنيها يفرون منذ الصباح واللجوء إلى بيوت أخرى بعيدة عن الواجهة كمرحلة أولى للنزوح، والذي خياره الوحيد مدينة القريتين وهي تبعد عشرين كيلومتراً وتحت سيطرة النظام. وبعد ساعات قليلة قصفت الطائرات بعض المناطق والبيوت المحاذية للمستودعات واستشهد الشاب رشيد العلي وأصيب عدد آخر وفتاة بجروح متفاوتة. حمل الناس القليل من متاعهم مستخدمين وسائل النقل المتوفرة لديهم، الدراجات النارية، التراكتورات، السيارات، ومنهم من كان يسير على قدميه برغم آلام شيخوخته فلم يعد هناك متسع له في آليات النقل. سيل من البشر يفرون بأرواحهم و أطفالهم ونسائهم إلى مدينة القريتين.

   في القريتين امتلأت المدارس والمركز الثقافي وبيوت كثير من الأهالي وبيوت كانت قيد الإنشاء، ليس لها أبواب أو شبابيك، وتحمّل الناس الزحام في الغرفة الواحدة وشظف العيش والجوع والعطش ثم تحملوا برد الشتاء وإذلال بعض الأهالي لهم. وصبر الناس إلى ما شاء الله، والعيون والآذان والقلوب تهفو إلى بلدهم.

   كان شارع القريتين الرئيسي يزدحم منذ ساعات الصباح الأولى، يلتقون ويتفقدون بعضهم البعض ويسألون عن أخبار البلدة، إنهم يسمعون دوي الطائرات وأصوات الانفجارات ويرون في الليل من أعلى المباني نيراناً ترتفع وتنخفض في أماكن عدة من البلدة وألسنتهم تلهج بالدعاء إلى الله اللهم سلّم، اللهم فرّج اللهم أستر، اللهم احفظ شبابنا...

   عندما خرج الناس من البلدة وقد كانوا يريدون النجاة بأنفسهم لم تسعف الذاكرة بعضاً منهم لأخذ أوراقهم الثبوتية، فمنهم من تركوا أموالهم أو دوابهم فبدتْ كل أملاكهم تافهة أمام الحفاظ على حياتهم وحياة عائلاتهم. ومن العجيب أنه لم يكن هناك أي نصيحة من شباب الحر للأهالي فقد كانوا غير مبالين ولسان حالهم يقول لا تذهبوا رغم معرفتهم التامة بأن جيش النظام لن يكون قادراً على الانتقام إلا من الأهالي.

   في مدينة القريتين حيث بدأ نمط من العيش لم يعتده الناس، إذ ارتفعت أسعار المواد بشكل غير مسبوق، الخضار، الطعام، اللباس، فحاول الكثير منهم الرجوع إلى مهين لجلب ما أمكنه من أمتعة وألبسة وغطاء ووطاء ومونة، مخاطرين في سبيل ذلك بحياتهم، فالحرب قائمة ولا أمان من الطائرات المغيرة ولا من القذائف أو الصواريخ، وحاجز القوس في القريتين يتفنن في إذلال الناس وأخذ الرشاوي للسماح للناس بالمرور.

بعد ثلاثة أسابيع انتهت أسطورة عقيد الجبل، ولكنه هرب أو تم تهريبه، وخرجت فصائل الحر من البلدة بعد أن أفرغوا المستودعات من محتوياتها. ولا أبالغ إذا قلت أنّ فيها ما يسقط نظام الأسد وميليشياته ولكن! ثبت فيما بعد أنّ كلّ فصيل يغنّي على ليلاه، لقد دخل جيش النظام إلى البلدة وقتل ثلاث مسنين آثروا البقاء في بيوتهم، وبدأ تعفيش البيوت وحرقها ولم تسلم ألأماكن الرسمية أيضاً، فقد نهبوا كل شيء، المدارس، البلدية، وحدة الهاتف، وحدة الزراعة، وغيرها، لقد قطعوا الكابلات وسرقوا المحولات وعدادات الكهرباء وعدادات المياه وسحبوا أسلاك التمديدات الكهربائية من جدران البيوت، وحرقوا الجامع الكبير ثم عرضوه على القناة السورية يتهمون (الارهابيين) بحرقه. كانت إبادة شاملة لكي لا تعود الحياة مرة ثانية إلى البلدة.

صدمة كبيرة مما يجري وحالة من اليأس انتابت الجميع، وحتى الذين يرتبطون مع النظام بشكل أو بآخر وقفوا عاجزين عن فعل أي شيء، فلم يكونوا قادرين على تغيير أي شيء من هذا الواقع المؤلم والذي كان لا يفرق بين أحد، فلا صوت يعلو على صوت الشبيحة وكان القول الفصل لهم، فقد تقرر مسح البلدة تماماً والانتقام من الحجر والبشر. لقد كانت مجموعات من ميليشيا الحزب القومي السوري الاجتماعي وغيرهم من الذين شاركوا جيش النظام في الدخول إلى البلدة هم من يسرق وينهب ولا يتركون أي شيء.

لا أعرف كيف تمت الأمور و قد تقرر أن تعود الناس إلى البلدة، وجاء الضغط الأول على الموظفين ومطالبتهم بالدوام في وحداتهم ومؤسساتهم وتأهيل هذه المؤسسات من جديد.

ذهب عمال محطة القطار والكهرباء والبلدية مجبرين ليشهدوا على جريمة التتار الجدد في بلدة مهين وكان عليهم أن يستمعوا إلى محاضرة في الوطنية عند حاجز الجيش بالإضافة إلى مزيد من التهديد والوعيد، وهذا التهديد لا يعني إلا القتل طالما لم يبق شيء ليخسروه إلا أرواحهم.

وفي اليوم التالي ذهب المدرسون وكل من لم يلتحق من الموظفين الآخرين، في هذا اليوم الشتوي الماطر والبارد. لم يكن لأحد أن يتخيل كيف ستبدو الشوارع والأزقة والبيوت، لقد كانت المناظر عصيّة على الوصف وكأنها مدينة صُمّمت لأفلام الرعب، فلا يمكن أن تجرؤ على السير وحيداً دون رفيق يقاسمك هذا الرعب. كان الموظفون يتفقدون بيوتهم بشكل جماعي وكانت الصدمة كبيرة، فلم يُترك بيت دون تخريب أو حرق.

   من بعد الظهيرة يعود الموظفون إلى القريتين ليعود التتار لممارسة هوايتهم في سرقة ما تبقى من أبواب و شبابيك وخزانات المياه.

   غامر بعض الأهالي وذهب إلى البلدة ليروا ماذا ترك لهم الشبيحة من ثياب ومؤن لتكون لهم عوناً في استقرارهم الحالي في القريتين، ولكن عساكر حاجز القوس في القريتين بقيادة العقيد علي الهندي تنبهوا إلى هذا الأمر ومنعوا الناس من إدخال أي شيء حتى لو كان ثياباً خرقة، فضيقوا على الناس وحرقوا أمتعتهم دون مراعاة دموع النساء وأطفالهن. وحتى يتفادى الناس المرور بحاجز القوس، كان الحل هو النزول بالأمتعة قرب المزارع، وهذا يعني حملها مسافة طويلة مع تحمل التعب والخوف من إغلاق طريق المزارع أيضاً.

   مرت أيام قليلة وأغلق طريق المزارع أيضاً، فالمطلوب بات واضحاً جداً وهو أن يعاني الناس أشد المعاناة عقوبة لهم بسبب خسارة المستودعات، وكأن مسؤولية حمايتها تقع على الناس العزل. لقد صدرت أوامر أخرى بأن الذاهب إلى بلدة مهين عليه ألا يعود ثانية إلى القريتين بعد الساعة الخامسة من بعد الظهر، وفعلاً اضطر بعض النسوة أن يبتن في الطريق قرب العقبة بعد منعهن من الدخول إلى القريتين رغم الخوف والبرد القارس والتعب من السيرالطويل.

   ضاق الناس ذرعا بكل هذه الأعمال التي لا تصدر إلا عن جيش احتلال، وبعد الشكوى وطرح الحلول كان الرد أن سارعوا بالعودة إلى بلدكم، والناس في حيرة من أمر هؤلاء، والذي يعني ارجعوا إلى المكان الذي ليس فيه أي مقوم من مقومات الحياة، لا أبواب، لا نوافذ، لا أثاث، لا ماء، لا كهرباء، لا طعام، والأهم من ذلك لا أمان، فمازالت قطعان السرقة والنهب المسلحة تسرح وتمرح في البلدة.

تجرأ عدد قليل من العائلات وعادوا إلى البلدة منذ أوائل الشهر الأول للعام 2014 م علّهم يجدوا شيئا من محصول الزيتون رغم الخوف، ولكن حدث ما كان متوقعاً فقد تم قتل وحرق عدد من الأشخاص بدم بارد، نساء ورجال وأطفال، و ذنبهم أنهم عادوا إلى بلدهم. لقد وصل الخبر صادماً وفاجعاً مما أوقع الرعب في قلب كل من كان يفكر بالعودة. ولكن الضغوط الممارسة على الأهالي والموظفين كانت كبيرة، فعاد الناس إلى البلدة رغم توالي الجرائم واختفاء ثلاثة أشخاص آخرين، حيث تبين فيما بعد أنهم  قتلوا وتم رمي جثثهم في بئر خارج البلدة.

عاد الموظفون وكبار السن والنساء والأطفال، أما الشباب فكان منهم من انضم للجيش الحر وآخرون من الطلاب مازالوا في جامعاتهم، وقلة قليلة من الذين آثروا الهجرة إلى لبنان أو الأردن أو تركيا. سُدت النوافذ والأبواب بأمتار من النايلون والشوادر، ونظفت بعض الغرف، وعادت الكهرباء إلى الأحياء القريبة من الساحة، وتدبر الناس أحوالهم شيئاً فشيئاً مع قدر كبير من بذل الجهد والتحمل والصبر.

   لم يبق لجيش النظام المتواجد بالبلدة تلك السطوة السابقة، فكانوا كالكلاب الأليفة التي تبحث عن مصلحتها في ظل السكان المتواجدين وخاصة أن أخبار الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) بدأت تفرض نفسها على الأجواء، وباتت مجموعاتها متسارعة الخطى باتجاه السخنة وتدمر، ويبدو أن فصائل الحر من أبناء المنطقة كانت في موقف صعب من قدوم داعش التي اتخذت فصائل الحر أيضاً عدواً لها واصفة كل من لم يبايعها بالمرتد.

كان عناصر الجيش الحر من أبناء البلدة يأتون إلى البلدة للاطمئنان على ذويهم من خلال طرق ترابية مستخدمين دراجاتهم النارية ومن ثم في سياراتهم، وشيئاً فشيئاً أصبحوا الحاكم الفعلي للبلدة حيث كان لديهم أسلحتهم الفردية وشكلوا مفرزة أمنية لحل المشاكل وما شابه، وقد اتخذوا إحدى الدور القريبة إلى الساحة مقراً لهم.


  الصفحة السابقة           الصفحة التالية



التعليقات


جميع الحقوق محفوظة

ملتقى بلدة مهين